الأربعاء، 28 مارس 2012

بين غربتين....ياقلبي لا تحزن!


ربما لم أمارس الكتابة الذاتية – أى المعبرة عن ذاتي – منذ فترة , وتحديدا حين كتبت عن الاختلاجات النفسية التى انتابتني فى اثناء رحلة استراليا فى مقال طويل سردت فيه ما يمكن تسميته بالصدمة الثقافية بين الشرق والغرب, والتى لربما قد تغيرت من وجهة نظري اليوم نقاط عدة منها, إلا ان مبدأ الاصطدام مايزال موجودا مادام التناقض موجودا فى كل شئ من حولي.
تأتى مناسبة هذا المقال بما أثارته فى ذهني إحدي الزميلات – وهى مصرية الأصل – تعيش فى نيوزيلاندا منذ قرابة العقد من الزمن , لربما اتى سؤالها بصورة ساذجة شيئا ما إلا اني لم اعتد ان استخف بالكلام الموجه لي او استهون الاجابة , ولربما ادي هذا إلى تعقد الكثير من الافكار والاجابات والاسئلة لدي , ربما لطبيعة عملي , أو لطبيعة مواليد برج الجدي – كما يقولون!! – انه(م) مولع(ون) بالتفاصيل!....هي سألت عن إن كانت المعيشة بصورتها المتكاملة, فى السعودية أفضل ام فى نيوزيلاندا؟ يتبادر للذهن حينها الاغتراب الزمكاني بين الاثنين وبين المراقب الثالث – أى انا- فهو وإن كان يري أن السعودية كانت اقرب جغرافيا وثقافيا وطبائعيا من وطنه الأم مصر إلا انه يدرك فى نفس الوقت حالة الاغتراب الانساني المتغلغلة فى ثنايا العقل والوجدان والمنحصرة بذات المغترب ليس اجتماعيا فحسب بل لما يراه من كم من تفاضل طبقي وعرقي, وبحالة الوضع المؤقت المسيطرة على طابع الحياة, تلك الحالة يدعمها تاريخ من اغتراب الاسرة الأم أيضا.
بصورة سردية , يمكن إيجاد عدة نقاط , لن اضعها فى صورة جدول كي لا تفقد هذه المقالة صورتها النثرية, فلو بدأنا زمانيا بالسعودية لوجدنا ان العيش هناك كان ماديا مجديا, الحياة سهلة عموما لمعرفتي بكافة طرائقها – الممنوع قبل المسموح! – الأمور مستقرة استقرار المنظومة الرأسمالية – المؤقت بالطبع- السفر لمصر,ولبلدان أخرى, ميسر وسهل وفى المتناول, توجد حولي العديد من الصدقات والزمالات الممتد بعضها لأيام الجامعة الجميلة.....فى المقابل بالنسبة لنيوزيلاندا فهي على العكس تماما من كل هذا , فالأمر ليس مجديا ماديا والحياة ليست سهلة لبروز عدة عوائق لغوية وثقافية, حالة الحيرة بسبب قلة الخبرة فى طريقة عيش أهل البلد تؤدي إلى كثير من الصعاب, السفر لمصر مكلف جدا وبعيد ومتعب و لابد من الاعداد له قبل شهور من البدء به, اما السفر لأى بلد أخر فكذلك مكلف ومرهق لبعد المسافة , فنحن فى طرف العالم الجديد بالمقارنة مع قلب العالم القديم!, الأمور ليست مستقرة فالاقتصاد هش باعتراف اهل البلد وهو ما يدفعهم انفسهم للسفر للعمل بالخارج – غالبا استراليا, اما الوحدة فليست أكثر الغائبين عن المشهد فالشعور بالوحدة الحقيقية حتى فى وجود الناس أمر لا مفر منه بسبب البون الثقافي اللغوي تارة وبسبب طبيعة غالب أهل البلد الغارقة فى الفردانية individualism سواء كانت فردانية وجودية او فوضوية , فالإنسان هو وهو فقط المسيطر على نفسه والمتحكم به ولا يملي أحد عليه شيئا وهو تأصيل فلسفة الحرية بالمفهوم الغربي أو النتيجة المرجوعة لعملية العلمانية الكاملة – التى لا نعرفها فى الشرق الأوسط بطبيقاتها الجزئية والفاسدة فى معظمها.
إذن...ماذا بعد؟ هذه الصورة ليست ضبابية بل محسومة من أجل العودة أو البقاء فى بلد قريب ثقافيا وجغرافيا من الأصل أو الوطن إلا أن تطلعى الذاتي للتجارب الاجتماعية وخوض الحياة الفلسفية لمجتمع منعوت بالتطور بما يعنيه هذا من استقراء كافة موروثات الهوية المتغيرة بطبيعتها الثابتة فى مخيلتنا , اعادة الاستقراء هذه مبناها فلسفي محض, بشري الطبيعة , بشري الغاية والطريقة , ينهض من الذات – أنا تحديدا – كأساس للمقارنة ومعيار للأشياء , وهذا هو عمق الفلسفة الإنسانية او الhumanization التى يترجمها البعض إلى الأنسنة, هذه التجارب لم تكن ممكنة فى بلد لا يعرف داخله من خارجه شيئا عنها, ولا فى وطن جريح بين اهل مترقبون لصورة حياتية يرسمونها لأبناءهم, هذه التجارب تحتاج إلى تجرد واغتراب مكاني يعكس اغتراب الذات فى العمق الجريح للإنسان, ولكنه لولا هذه النهاية المحتومة بالسعادة – سعادة التجربة وإن فشلت – تحفزني بل وتسيل لعابي على البقاء وإن لم يسقط عني لقب المغترب......حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.


هناك الكثير إذن لا يمكن شرحه للناس ببساطة أو بسذاجة كما اعتادوا ان يسعموا من بساطة الأحلام , ولكن هذا لا يدفعنا للقول بأن هذه الصورة المتميرة بالحيرة حتى فى الاختيار المحسوم سلفا بفشله على المدي المنظور والمجهول تمام على المدي الطويل , كل هذه المعطيات ناهيك عن معارضة الأهل بل وعدد من الاصدقاء لم تثنيني عن السير فى هذه التجربة......الآن فقط ادركت ما ذكرته لي الوسيطة الروحانية التى قالت لي أنى شخص عنيد جدا وانفذ ما اخطط إليه حتى لو عارض الجميع هذا!!, ربما لا يتخذ هذا الأمر صورة عنيفة فى العناد فماتزال لغة الحوار والاقناع والكلام دائرة أو لربما لأنى لم اجد من المعارضين على كثرتهم من يستطيع ان يقنعني بخلاف ما أراه!, ربما يصلح هذا لنقد الديموقراطية فمن الممكن ان تكون من حزب معارض ولكنك فى الحقيقة لا تمتلك القدرة على اقناع معارضيك - الطرف الثاني أو "الآخر" - برأيك, هذه الحالة من عجز المعارض ولربما مع تسلطه تجعل فكرة السلطة كلها محل نقد , فليس معنى وجود المعارضة لرأيك انه خطأ وليس معني انعدام المعارضة انه صواب , هذه النسبية تجعل - أيضا- من معني الحياة الغارق فى الاستقالة العقلية سخفا وسذاجة - وليس لا معقولية - بأن تكون كل الأمور معدودة سلفا وليس علينا إلى ان نؤدي ادوارنا فى مسرحية الحياة السخيفة التى يعرف كل المتفرجين عليها نهايتها مسبقا......إلا انا.