الجمعة، 8 مارس 2013

ثم ماذا بعد؟



لعل ضحالة الفكرة تبرر ركاكة اللفظ, ولكن الغريب ان تكون الضحالة هي المفر الذي ينتظر الإنسان حينما يبحث عن حلول "تقدمية" لمشكلة وجودية قائمة على عجز الإدراك البشري عن إدراك نفسه!

هذه العبارة السابقة تلخص حالة الشتات الذي يعتري الإنسان المتجرد من انتماءاته الموروثة الدوغمائية (المبنية على التقليد) الى فضاء الحرية القريب فى لفظه من الحيرة في النطق العربي وهو تشابه في المبني يشي بقرب في المعني.

لا أجد حسب اطلاعي البسيط فى الأدبيات العربية ان استخدم العربي القديم - وهو مصدر الأصالة والمرجعية اللغوية عند العرب - لفظة "حرية" للدلالة عن معاني قريبة من المعاني الحديثة للحرية الفردية والحقوق المدنية إلا ان المتتبع للحالة السوسيواقتصادية للمجتمع العربي القديم يدرك أن البدوي القديم لم يكن يفتقد الحرية ليبحث عن لفظة لها, فهي معني قائم بذاته فى نفسه الغير معتمدة على أحد فى استرزاقها ولا حمايتها....هكذا وجد نفسه متحررا إلا أن طبقية القبيلة جعلته أكثر اتصالا بها من نفسه كنوع تجرد نحو "الآخر" الذي كان يتخذ هذه الوضعية الاجتماعية نظير تصدره المشهد القبلي واعتباره صمام أمان لشرف ونخوة وقيم القبيلة.

لم تكن ثمة مشكلة وجودية عند العربي القديم فالملاحظ أن مشركي العرب قبل الإسلام كانوا راضين بفكرة " إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما نحن بمبعوثين" قريبة المعني جدا من الافكار العدمية Nihilism فى الفلسفات الوجودية الغربية المعاصرة, بشقيها المؤمن والملحد, وكما يبدو من صياغة الآية بتقديم الموت علي الحياة استهتارا منهم بالمعني المنفصل قبل المتصل, مع كون الإنسان المحقق يجد أن حيرته تثور بشدة لفكرة الموت الذي يعلم علم اليقين انه سيأتيه لينهي عالمه المعاش......ليس هناك معنى إذن فى كل هذه الأشكال الموجودة بحياة مكتسبة ولا فى زوالها وليس من معنى أيضا خارج عنها (البعث).... هكذا تختفي الأسس الأخلاقية لانعدام المعنى فلا يبالي أحد بقتل كائن آخر ليس لحياته قيمة....هذا الكلام ليس صحيحا بعد أن تطور المنظور البشري إلى فكرة الواجب الأخلاقي في مقابل الأخلاق الدينية ولكن هذا قد يحل مشكلة المجتمع التنظيمية ولكنه لا يحل مشكلة الفرد الوجودية!.

يلف التشاؤم والضبابية الباحثين عن معنى خارج أو حتي داخل الأديان, وهذه السمة صبغت فلاسفة الوجودية الحديثة Existentialism فأقدم بعضهم على الانتحار والآخر استغل حيرة المستمعين وما لاقاه منهم من اعجاب ليكمل الحياة التى كما تبدو ليه أقل خوفا من فكرة الموت.... كل هذا لم يحل المشكلة ايضا!.

من أجمل ما سمعت أذني فى أمر شبيه حديث لطلبة الفلسفة عن معضلة المعني بمحاولة إنكار يقينية الموت....كان من شدة تعجبي أنى لم استطع ان اقول شيئا سوي : سندرك حين لن يكون لإدراكنا ثمة معني!...ولكن الأعمق فى الكلام هو كيف أن الإنسان يحاول دائما ان يخلق بيئة من عدم التناقض مع نفسه فيقنع نفسه بالمغالطة كي تستقيم الأمور مع توجهاته الاعتقادية....هذا من طبيعة النفس البشرية أو ما يسمي فى علم النفس بتحيز التأكيد Confirmation Bias ومعناه ان الإنسان دائما يسير فى الاتجاه الذي يتوافق مع رؤيته بحيث تقل او تمتنع التناقضات فى حياته, بعض النظر عن كون هذا الاتجاه صوابا أو خطأ.

لعلي اليوم وانا أنظر لهذا الكلام مودعا كتب الفلسفة التى رافقتها بضع سنين, لا أنظر إلى سوء المنقلب من هذه الحيرة التى تعتري الإنسان المفكر قدر ما أنظر إلى جمال الحياة التى تصحبها ديناميكية الرأي والرأي الآخر, بكل ما فيها من قيم إنسانية نبيلة, ولعله الوقت لتجربة أكثر عمقا من التجرد العقلي الذي يصل لعجز عن إدراك العجز فى إدراكه!........

ويبقي السؤال...... ثم ماذا بعد؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق