وإذا كانت الكنيسة في تلك العصور تمنع التقدم العلمي ، فإن الإسلام منع أن يكون لأي من المسلمين سلطة على العلم ، قال تعالى [ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ](الزمر: من الآية9) ومن هنا انطلقت المسيرة العلمية بين المسلمين ، وكان لهذا الانطلاق الفضل في كسر سلطة الكنيسة على العلم تأثرا بالمسلمين ، فأزيلت سلطة الكنيسة وحل محلها فصل الدين عن الحياة ، نتج عن ذلك تقدم الغرب في مضمار المكتشفات والمخترعات ، وتقلص عند المسلمين البحث العلمي فتأخر المسلمون ، حتى أزيل الإسلام عن قيادة الحياة في شقيها التفكير والتسخير .
لقد قبع المسلمون منذ منتصف القرن الخامس الهجري في معطيات إسلامية مذهبية ، وأذ من لوازم المذهب منع الاجتهاد والتفكير بالدوران حول الرموز التي اختارها المذهب ليدور الناس حولها وجد من جراء ذلك ثلاثة أنواع من الرموز في كبريات تلك المذاهب الإسلامية وحجر العقل عن قراءة هذه المذاهب كما كانت في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم فالفكر السلفي جاء بنظرية عدالة الصحابة ليس على سبيل النظر لمجموعهم بل النظر لكل فرد منهم بمفرده ، ونادوا بمنع القراءة النقدية لمنعطفات في التاريخ الإسلامي كان لها دور كبير في صنع الكارثة التي تلفنا معشر المسلمين ، فصار النموذج التاريخي لعصر الصحابة رضوان الله عليهم ـ وهو نموذج إنساني ـ ممنوع على القراءة النقدية للاتعاظ بحوادث التاريخ .
هذه الصورة ـ صورة المنع ـ تتكرر المرة تلو المرة في المجتمعات العربية الإسلامية ، وتثير زوبعة تتلهى بها زمرتان من المثقفين : زمرة الإسلاميين ، وزمرة التغريبيين والزمرتان تمنعان الاجتهاد داخل الإسلام وخاصة معطيات التاريخ والثانية تحكم على الإسلام الذي أقر عدوه بتقدمه في مضمار المعرفة والعلوم طيلة قرونه الخمسة الأولى بأنه سبب البلاء الذي نحن فيه الآن .
والمثل الحي على هذا القول في هذه الأيام ما يجري للكاتب أسامة أنور عكاشة الذى أختلف معه أنا شخصيا فقد عومل الرجل بصورة كما فى المثال المذكور والمشهور من كتب الذين يطالبون اليوم بدمه والتفريق بينه وبين زوجته!!فقالوا أن من قال بدوران الأرض فهو كافر!!,الرجل-وكأى إنسان حر له الحق وكل الحق فى التعبير عن رأيه الذى يكفله له الدستور المصري-أبدى رأيه فى قضية تاريخية مسطرة بالكتب وأفعال أوجدتها شخصية ما مكلفة مثابة إذا أحسنت معاقبة إذا أساءت ولاتخرج أبدا-بأى حال من الأحوال-عن سنة الله الربانية فى أن من عمل مثقال ذرة خيرا يره ومن عمل مثقال ذرة شرا يره ولو كانت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله تعالى قرر هذه الحقيقة أن الأفعال الطيبة إن وجدت لا تعطى العصمة أبدا ولاتخرج الإنسان من سنة التكليف فقال عن أهل الرضوان الذن بايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم : " فمن نكث فانما ينكث على نفسه" ]الفتح: من الآية 10[ وهذا يدل على أنه لا حصانة وأفعالهم هى التى تحكم عليهم بعد ذلك فهم مكلفون ومازالوا,ليس أهل الرضوان فقط, بل الجميع, والطلقاء الذى أسلموا بعد اسقرار الأمر للنبى صلى الله عليه وسلم فى مكة أولى بهذا,وأفعالهم بعد ذلك تعلمنا من أحسن ومن أساء,وأوضح أسامة أنور عكاشة-كأى راو-حقائق تاريخية لم تختلف الأمة على وقوعها وإنما اختلفت-بل وأجبرت على الخلاف-على النتائج المتعلقة بتلك الأحداث, متحولة إلى قواقع عديدة,يلعن بعضها بعضا,وتدعو عليها بالويل والثبور.
لم يكن أسامة أنور عكاشة الضحية الأولى لقواقع مذهبية قديمة,بل واستحدثت أحكاما-ما أنزل الله بها من سلطان-ونشأت نظريات عديدة سياسية متمسحة بالدين على يد السلطة الأموية الجبرية, كأحكام حد"سب الصحابي!!!" ,و"عدالة الصحابة" وأطلقت إطلاقا على مصراعيه,ناهيك عن وضع تعريفات للصحابي تكاد ترفع المتربعين على رقاب المسلمين إلى مرتبة العصمة بل وتبطل التكليف تجاههم!!!,والذى يحقق فى هذا الموضوع يجد عديد روايات,ولا أصدق من التاريخ لفهم ماوقع ومعرفة ماصح وما هو دسيس على المرويات.
والقواقع الباقية اليوم وهى ليست قليلة وإن كانت ولاشك أقل وطأة من السابق حيث كان يستباح عرض من لا يسب الإمام علي وهو من هو!!.بل ووإن أحد ثقات البخاري الذى تدين له اليوم عديد قواقع بالعصمة بعد كتاب الله تعالى! وهو حريز بن عثمان الذى روى البخاري له حديثين بل وكل أصحاب الصحاح الست عدا مسلم كان يتقرب إلى الله بعد كل صلاة بلعن الإمام علي وفى هذا الموضع العديد من الثقات والدغمائيات والمتناقضات الكبيرة جدا جدا جدا فعدد من هؤلاء الثقات مشهورون بالنصب وسب الإمام علي رابع الخلفاء الراشدين بينما كان من يقدمه على سيدنا أبى بكر وسيدناعمر تترك روايته ويفسق بل والشاهد أن من كان يتاول أبابكر بالسب كان يقتل ويتهم بالردة من قبل المحدثين!! فلماذا يرتد الراوي إن سب أبا بكر أو عمر، وإن سب علياً فهو ثقة ثقة ثقة ؟!.طبعا أنا لست فى معرض الحديث عن التاريخ ولكنى أقول إن عمرو بن العاص-ولست فى موضع سرد أفعاله المعروفة لكل من قرأ عنه-ليس أبدا لا فى مقام علي ولا أبى بكر رضى الله عنهما وقد كان المفتري على علي الكذب ثقة صاحب الكتاب الذى ادعوا له العصمة فماذا يقولون بمن قرر حقائق ولم يفتري عن شخصية تاريخها لاينكره إلا مكابر؟ وماذا يقول المتقوقعون الظلاميون فى هذا الراوى المجرم؟؟ألا تسقط عدالته؟؟أما يستحق الحرق حيا لأنه تطاول على "عدالة الصحابة" بل وبالكذب فالكل يعلم من علي وما مقامه وماذا قال الشيخ محمد عبده-الذى لطالما عانى هو أيضا من الظلاميين-عن كتابه نهج البلاغة فهو أبلغ كلام لأهل الأرض بعد كتاب الله وحديث نبيه صلى الله عليه وسلم, أم أن الهوى المذهبي والقوقعي لن يزول وطبعا لن يزول بمقال واحد من رجل بسيط مثلى.
كل ماسبق هو موقف من الرجل وبيان لما فعل ولكن الأخطر من ذلك هو أن الأفكار أصبحت تناقش فى المحاكم وتحت سيف التكفير والتفريق بين الرجل وزوجته ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم, ماهذا؟؟وكيف يعرض أصحاب الفكر-الذى أختلف معه- لمثل هذا التشهير والإرهاب لأنهم قرورا حقائق؟؟أو قالوا فأخطأوا.يقوموا فى المحاكم؟؟؟وكأنها جناية؟؟وأين دستورك يامصر الذى يكفل حرية التعبيرعن الآراء وحرية الاعتقاد؟؟هل أكلته طوارئ الطوارئ مع ما أكلت؟؟ليتها أكلت الإرهاب الفكرى بدلا من أن تأكل الحرية.
إن الحملة التى تقاد اليوم ماوصمتها إلا القوقعية العمياء وكأننا مازلنا نفضل العيش فى قوالب متقولبين فيها يرى كل واحد منها الآخر ضالا كافرا مبتدعا هالكا وكأن الجنة والنار ملك لهم ولآبائهم الذين قلدوهم فيدخلون فيها من يشاؤون ويخرجون منها من يشاؤون والواقع أنهم ما يشاؤون إلا أن يشاء آباؤهم الأقدمون.
فليخبرونى ماذا يقولون فى الشيخ ابن تيمية الذي يعتدون به وكأنه معصوم ويصدرون أحكام التكفير اليوم من كتبه التى خطت من حوالى 700عام!!ماذا يقولون فى كتابه الذى أسماه " منهاج السنة النبوية " وهو يمثل صورة مثالية للتناحر القوقعى فأراد أن يهاجم قوقعة أخرى اسمها الشيعة الإمامية فتطاول على الصحابة وقال عن علي بن أبى طالب أنه قاتل للرياسة لا للديانة!!!وقال أنه أسلم صبي وإسلام الصبى لايصح على قول!!!وقال أنه لطالما طلب الخلافة والرياسة ولم ينالها!!وإنه كان مخذولاً حيث ما توجه!!....فليخبرونى أبمثل هذا الكلام وصاحبه يعتدون؟؟فليطبقوا ما شاؤوا على ماقال.
أين نمسى اليوم ونحن على هذا الحال فى مصر؟؟ وأين نصبح غدا بهذا الوضع؟؟ فقضية كهذه مثلا وهى قد اختلف فيها المسلمون – طبعا خارج فلك القواقع- بعضهم داخل القواقع وآخرون تحرروا من قواقع مواريث الآباء فنجد مثلا أن العديد من المفكرين والمؤرخين المنصفين فى الإسلام الذين حاولوا الخروج من قواقع الموروث المذهبي كالمعتزلة وعدد من علماء الأشاعرة الأزاهرة كالشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا وكذا العديد من الذين من الله عليهم بفتح أعينهم.....قاموا بنقد التاريخ الإنساني وأعطوا أراءا متقاربه على اختلاف مشاربهم وخلفياتهم الذين اتصفوا بالنزاهة والبعد عن التعصب إما الشيعي المتحامل على عدد من الصحابة رضوان الله عليهم وإما الأموي الجبري الناصبي .
إن اللفظ الذى استخدمه الأستاذ أسامة واصفا به الشخصية السياسية التاريخية التى أوجدت تلك الأفعال التى يعلمها الجميع وهى لا شك أفعال عذر وخيانة وطلب دنيا باعترافه الشخصي الموجود فى كتب التاريخ,بوصفه "أحقر شخصية فى الإسلام" وإن كان هناك من هم أحقر وأفعل التفضيل هنا غير محدد فيطلق ,أو لنقل أنها أحقر الافعال الصادرة من منتسب للإسلام , وطبعا الإسلام حجة على الجميع , هذا اللفظ أثار العامة وكان من عتاب بعض المفكرين له ألا يطلق اللفظ أمام العامة ولكن الحقيقة أنه لو لم يقل لا حقير ولا أحقر ولكنه لم يمتدحه فقط لثارت عليه التهم لأن الأمر مربوط فى أذهان بعض الظلاميين والدغمائيين بذوات "مقدسة" خارج ميزان النقد والتكليف والصواب والخطأ!! أو على نظرية " الخليفة ظل الله فى الأرض " وحزبه طبعا!!.
وفى ظل تلك الحملة المعلنة على الرجل , يلجأ أصحاب القواقع إلى إتهام المخالف لهم بأنه من قوقعة أخرى!!فرأينا كيف أن المحامى الذى رفع القضية على الرجل اتهم الرجل بأنه لجأ لكتب الشيعة!!! ونسى المحامى أن مراجع التاريخ السنية المذهب هى ممن وصفت أفعاله, ثم إنه من مصيبة أمتنا الإسلامية والعربية أنها ترى التاريخ من وجهة مذهبية وكأن الحق حكرا على هذا المذهب لاغيره ومن هنا يتحول المذهب إلى قوقعة تضم تحت كلستها أعدادا جمة , وما أكثر العوام . بل والطامة أن يتحول الأكاديميين والمفكرين أيضا إلى متقوقعين متقولبين.
إن أفعال عمرو بن العاص بل والصحابة جمعاء ليست حجة على الإسلام ولا دليل عليه لأن التشريع انتهى بإتمام الله تعالى له على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم , فيظن الدغمائيون بأن انتقاص عمرو بن العاص بأفعاله التى عليها يشهدون هو انتقاص من الدين!!!ومن هنا قالوا ب" عدالة أفراد الصحابة " ولم يعودوا معصومين فحسب , بل يتمتعون بحصانة من النقد حتى لو أدى الخلاف بينهم إلى لعن بعضهم بعضا على المنابر وتربصهم بالآخر وسفك دماء آلاف المسلمين!!وتفريقهم واستباحة دمائهم , ويرى بعض الناس ولا أعرف كيف يقولون ذلك بأن لولا عمرو بن العاص لما أسلمت مصر!!!وكأنهم بذلك ينظرون لمقولة أن الإسلام انتشر بحد السيف!!فعمرو لم ينشر الإسلام بمصر وإنما طرد منها الروم ثم أنه لم يرتجل ذلك وإنما ذهب إلى هناك بناءا على أمر خليفة المسلمين الفاروق عمر بن الخطاب الذي كان عمرو بن العاص ولاشك يهابه لشدته وغلظته فى الحق رضى الله عنه.
ومع ذلك لا عمر ولا عمرو من نشروا الإسلام بمصر وإنما هو هذا الدين الذى نشر نفسه الدين الذى حرر العباد لعبادة رب العباد إنه دين محمد صلى الله عليه وسلم والذى هو حجة على عمرو بن العاص كما هو حجة على عمربن الخطاب بل وأهل الأرض جميعا, والمراجع للتأريخ العددى لسكان مصر وأديانهم منذ الفتح الإسلامى يعلم حقيقة ذلك.
لا أعرف من أين نهض أسامة أنور عكاشة ليقول هذا الرأى فهل نهض من خلفية المتدين الذى أخذ بالحديث الذى يرويه الحسين بن علي من رأى منكم سلطانا جائرا مستحلا لحرم الله ناكثا لعهد الله فلم يغيرعليه بقول ولا فعل كان على الله أن يدخله مدخله , فأراد بعد أن شارك فى المسلسل بأن يتبرأ إلى الله من هذا الوصف , أم نهض من خلفية الإنسان الرافض للظلم الثائر على إدعاءات القدسية المزيفة أيا كانت عقيدته وفكره الذى لا يحق لنا أنا نحاسبه عليه فى المحاكم , أم نهض من خلال خلفية وقافة على نقاط فى التاريخ الإسلامي مزقت الأمة العربية والإسلامية حتى اليوم المهم أنه قال ماقال ولاتهمنى الدوافع ولكن الحقائق التى أتى بها أقوى من أن يزيفها أطراف الصراعات القوقعية.
لاشك أن هذا المقال لن يروق للعديد من طلاب القواقع وربما يستحلون دمى كما فعلوا مع أسامة أنور عكاشة فأنا لست بأحسن حظا منه. و فى النهاية أفتحوا أعينكم وأتقوا الله فى أسامة وفى الناس وأخرجوا من قواقع المذهبية...وإلا فخراب الدين والدنيا.
*منشور بتاريخ 9 نوفمبر2004
http://arabtimes.com/Mixed%208/doc52.html
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق